يرصد الباحث عمر أوبلا في دراسة جديدة جوانب من التلاقح الأمازيغي العربي (الحساني) انطلاقا من نماذج من الأعلام المكانية بإقليم طاطا خاصة، والجنوب المغربي عامة، عبر إبراز “التناوب أو التمازج العربي الأمازيغي في تسمية بعض أسماء الأماكن، وما يصاحب ذلك من تغيرات في بنية الاسم وفي بنية التركيب، في حالة الأسماء المركبة”.
تهتم الدراسة المنشورة في مجلة “ليكسوس” العلمية التاريخية بإقليم طاطا بوصفة “منطقة استراتيجية، ومهدا للعديد من الدول والحضارات التي تعاقبت على حكم المغرب، إذ إن طاطا كانت بوابة للصحراء المغربية ومنها لدول جنوب الصحراء”، وهو موقع “ساهم في نشوء العديد من القبائل، التي ارتبطت فيما بينها عبر علاقات متوترة أحيانا وهادئة أحيانا أخرى، من خلال حلفين مشهورين هما: إكيزولن وايسكتان”.
يذكر الباحث أن هذا التلاقح الذي تكشفه الأعلام الجغرافية يشكل “ثروة وطنية ضخمة ينبغي الاعتناء بها كما يجب، لأنها تعتبر وثيقة تاريخية ثمينة لا تقل قيمة عن الوثيقة التي تتمثل في القطع النقدية (…) أو حتى بعض النصوص المكتوبة”؛ لأن العلم الجغرافي “بحر زاخر بكل المعطيات التي يمكن أن يتصورها المرء” وهو “بصمات حول الحضارات الماضية”؛ فـ”الإنسان كان محتما عليه دائما عبر التاريخ أن يمنح للأماكن أساميَّ تعبر عن انتمائه الهوياتي عن طريق لغته وحضارته، فهي بذلك تعبر عن تحركاته التاريخية، وهجراته، والفترات الاستعمارية التي تعرضت لها الدول، وأيضا عن المناطق التي ترك فيها أثره”.
كما أنها تساعد في معرفة الانتماءات العقدية والسياسية، عبر أسماء الأولياء والملوك مثلا الحاضرة في أسماء المناطق ومعالمها، ولها أهمية لسانية حيث “تساعد في إيجاد الحدود اللغوية بمنطقة معينة”؛ ولذلك هي من وجهة نظر الباحث “أحفوراتٌ نحوية ومعجمية”.
ويفسر الباحث مؤثّرات “طوبونيمية طاطا” بالقول: “لقد أدى وصول الإسلام إلى منطقة شمال إفريقيا وبداية الهجرات العربية إلى خلق نوع من الانسجام بين الاثنيّتين الأمازيغية والعربية، حيث زادت رغبة سكان شمال إفريقيا تعلم اللغة العربية، قصد تعلم تعاليم الديانة الجديدة، وهو ما جعل ساكنة طاطا في مرحلة أولى، على غرار سكان جل المناطق المغربية، تطلق أسماء بعض الأماكن بأسماء متضمنة لكلمات عربية تم تمزيغها أو اقتراضها لتوافق النطق الصوتي للغة الأمازيغية، أما المرحلة الثانية من التأثير العربي في أسماء الأماكن الأمازيغية بطاطا، فقد ابتدأت حينما بدأ سكان المنطقة يوثقون معاملتهم باللغة العربية، خصوصا فيما يتعلق بعقود التملك والبيع والشراء”، مما أفرز ثلاثة توجهات أساسية، هي: تعريب بعض الأسماء من خلال الوثائق وتعريبها في الواقع، وتعريب الأسماء في الوثائق دون تعريبها في الواقع، وتوجه ثالث احتفظت فيه أسماء الأماكن بأصلها الأمازيغي أثناء كتابتها في الوثائق أو أثناء تداولها في الواقع.
وحول مرحلة التمازج العربي الأمازيغي بمنطقة طاطا، قدمت الدراسة مثالا بمصطلح “زاويت”، الذي يعني المكان المعد للعبادة وإيواء الواردين وأصحاب السبيل وإطعامهم، علما أن الزاوية ظهرت في المغرب بعد القرن الخامس الهجري الموافق للحادي عشر الميلادي، ثم مصطلح “لمدرست” الذي أطلق على المدرسة العتيقة التي يحفّظ فيها القرآن وتعلم فيها تعاليم الإسلام، فمصطلح “طالب” المقترضة من العربية وتعني في الأمازيغية الفقيه أو إمام المسجد، ومصطلح “الحاج” الذي يحضر في أسماء بطاطا مثل “أيت الحاج” “تكادير نايت بلحاج”، “سيدي حماد الحاج”…
ومن الأماكن التي عرّبت، مدخلا طاطا من الغرب والشرق “فم الحصن”، علما أن سكان المنطقة يسمون أكبر تجمع سكاني بها “ايمي ن او كادير”، وهو مرادف الاسم العربي. كما يوجد اسم “فم زكيد” الذي عرّب فقط جزؤه الأول “فم” الذي يرادفه في الأمازيغية “ايمي”.
أما الأسماء التي عرّبت في الوثائق لا في الواقع، وهي “ظاهرة كثيرة الانتشار، خصوصا بعد تمكن الإنسان الأمازيغي بالمنطقة من اللغة العربية”، فمن نماذجها “أكادير الهناء أو أكادير أوفرا” الذي يكتب في وثائق “حصن الهناء أو حصن الأمان”، و”تكاديرت أولكوض” المكتوب “حصنة الصور”، و”أكال ملّولن” المكتوبة “الأرض البيضاء”، و”تيكمي ن ايكرامن” الموثّقة بـ”قصبة المرابطين”، وغيرها.
وتبقى الظاهرة الأكثر شيوعا، وفق الدراسة، احتفاظ أسماء بتسميتها رغم توثيقها”، مثل “تاركانت” التي تكتب “تركنت” وهي دوار، و”تيشكجي” التي تكتب “تشكج” وهي دوار، و”تاليوين” وهي دوار صغير، و”أكجكال” أحد أقدم التجمعات السكانية بطاطا، وغيرها.
ويحصي البحث مسميات تتناوب فيها التسمية الأمازيغية والعربية الحسانية مثل “بوشان” المركّبة من “بو” بمعنى صاحب و”أوشّان” جمع الذئاب “أوشّن”، “وترجيلت” وهو ممر جبلي اسمه مفرد مؤنث أصله عربي وبنيته الصرفية أمازيغية يحتمل أن يكون من الرّجل، و”لْعوينة” وهي عين تعرف محليا باسم “تالعينت”.
كما تحضر بالمنطقة مسميات عربية حسانية صرفة مثل “لعيون” وهي من التجمعات السكنية، و”خنك الفتنة” من الخوانق الموجودة بكثرة في جنوب طاطا وتمر بها العديد من المجاري المائية، و”لكعيدات” وهو منبسط شاسع مفرده “لكْعيدة” أو “لكَعدة”.
وتخلص الدراسة إلى أن أمثلة أسماء الأماكن بمنطقة طاطا تبرز “أن التلاقح بين الإثنيات أفرز فسيفساء من الأسماء الطبيعية والبشرية، يتداخل فيها ما هو أمازيغي وما هو عربي، حيث إن اللغتين تعايشتا جنبا إلى جنب في هذا المجال”، مما يتطلب واجبا رسميا ومدنيا لـ”المحافظة على هذا الإرث التاريخي” عبر “جرد وتصنيف هذه الأسماء، من خلال إنشاء مؤسسات ومنظمات خاصة بهذا الجانب”.
0 تعليق