الدموية في سوريا .. كيف ألهم "سجن صيدنايا" صناعة الأفلام الوثائقية؟

0 تعليق ارسل طباعة

يحتاج هذا الواقع السوري الجديد زمنا لهضمه وتحويله إلى عمل إبداعي. في انتظار ذلك طفت حكايات غياهب عنبر 8 في سجن صيدنايا على صفحات الإعلام العالمي المصّور، حكايات فردية تجمع شتات عصْر في طبقات سجن تذكر بلقطات السجن والجوع والدم في فيلم “بلاتفورم 2020” للمخرج جالدير جازتيلو وروتيا. حكايات مكثفة في مقاطع مصورة لأجساد المعتقلين الأحياء الأموات… سوريون يبحثون عن جثث ذويهم لدفنها بعد 50 عاماً من وحشية عائلة الأسد… خرج السجناء للشمس أول مرة بعد عذاب. يحزَن من يقرأ هذا عن بعد، بينما يفرح من عاشه نصف قرن وتخلص منه الآن. لم يكن هذا الخلاص مضمونا، خلاص تأخر كثيرا مقارنة مع تونس ومصر والعراق…

بينما يُكتب هذا المقال عن سينما الثورة السورية (ككوابيس فيلم عزيزة 2019 لسؤدد كعدان)، تنكشف وتُروى قصص دموية جديدة (ومقابر جماعية في المزارع وتحت مقرات الشرطة) توفر للقارئ معلومات لم تتوفر لكاتب المقال، وهي حين تتوفر للسينمائي السوري سيحتاج هذا الواقع زمنا لهضمه وتحويله إلى عمل إبداعي… يتعذر على أي مبدع أن يكتب حوارات متخيلة ترْقى إلى الحوارات التي تبث للمعتقلين السابقين في سجن صيدنايا… يتعذر مشاهدة امرأة نسيت اسمها وأهلها… معتقل يتحدث عن عدد الاعدامات ويقسم بأنه لا يكذب… سجناء يحكون عن أفعال السجّان الذي رقى نفْسه إلى مرتبة ملاك الموت… يحكون عن عنف جسدي ونفسي بالتهديد بإذلال نساء العائلة… يحكون في باب السجن مما يجعل الدراما في قمّتها… لقد أتاحت التكنولوجيا دمقرطة التصوير، وهذا ما سهل توثيق وقائع الثورة السورية بشكل مكثف منذ انطلاقها في درعا. كانت قيمة هذه الفيديوهات تتحدد بالتقاط الحقيقة وتوثيق الوقائع بصدقية تاريخية.

كيف يمكن قراءة الأفلام الروائية والوثائقية السورية والعربية والأجنبية المُنجزة عن الثورة السورية؟

تلهم الثورةُ الفن.

اندلعت الثورة في الشارع ويُفترض أن يصعد لهيبها إلى الشاشات. لا تمول الأنظمة الحاكمة فنا مسيسا تعتبره تحريضيا. الحكومات تمول التسلية.

يصعب التركيز على الأفلام السورية المتخيلة والوثائقية عن الثورة (التي عرضت في مهرجانات مثل فيلم “من أجل سما” 2019، من إخراج وعد الخطيب والبريطاني إدوارد واتس) بينما الخارجون من سجن صيدنايا يعرضون مادة حية على المباشر، يقدمون شهادات بأجسادهم متاحة في الإنترنيت… حتى حين يسكت الضحايا يعبّر صمتهم بشكل أفضل من كلامهم. هذه وقائع عنف موثق، تُثبته أجساد المعتقلين فعليا… يصعب على أفلام التخييل أن ترتقي إلى مستوى هذا العنف. تقدم الوثائقيات الحية محتوى عميقا عن سجناء يحدقون في الفراغ من هول الألم. تعبر الكاميرا عن وجهة نظرهم حين تصورهم باعتبارهم نماذج حية(Prototype) تعيش الاغتراب لا ممثلين محترفين أتقنوا دور المُستلبين.

نتجت هذه التراجيديا عن طول محنة الشعب السوري. هذه أفلام وثائقية تكشف الحقيقة وتدحض الصور التي قدمتها أفلام السلطة التي كانت تبث دعاية تُمجد نظام حافظ الأسد. لقد انقسم المشهد الفني السوري بين سينما دعاية مع النظام وسينما ضده، وهي أيضا مهددة بفيروس البروباغندا الثورية الحالمة. كتب السيناريست السوري علي وجيه على صفحته في فيسبوك: “في النهاية، لم يجلب الاستقطاب الحاد سوى الضرر لهذه السينما، ما جعلها تصاب بالصداع والمرض”.

كل هذا تراجع لتنكشف حقيقة اللحظة:

يحكي سجين حكايات النجاة من الإعدام الميداني هرباً، يحكي الروائي مصطفى خليفة قساوة العذاب في سجون سوريا… هذا ما أفرزه توالي الانقلابات والدكتاتوريات في سوريا.

كمثال حي، مقابلة مع وليد بركات المحرر من السجون السورية بعد 42 عاماً من الاعتقال. كيف يمكن لفيلم متخيل أن يقبض ويحكي 42 سنة.

إن القيمة الوثائقية لهذه الشهادات فظيعة وستطبع المستقبل. لذا تمنح هذه المقالة الأسبقية في الفيلم الوثائقي لالتقاط اللحظة الحاسمة وتوثيق الوضع البشري، وهو أهم من جمالية الصورة وحرفية التصوير.

سيبدو أي فيلم متخيل في ديكور مُصطنع شعارا مُذهّبا يفتقد المصداقية مهما كان عمل الممثلين المحترفين مقارنة مع الشخصيات الواقعية التي تبثها فيديوهات يوتيوب.

حاليا تقدم فيديوهات السجناء الخارجين من سجن صيديانا شهادات مرعبة تتجاوز كل الافلام المتخيلة والتوثيقية القديمة والجديدة. لقد نتج العبث عن طول مدة حكم حزب البعث.

بدأت الثورة التونسية والسورية في أقصى أقسى الجنوب البئيس والجاف. تحققت الثورة التونسية يوم فر زين العابدين 14-01-2011. مر أقل من شهر بين احتراق البوعزيزي وهروب الرئيس التونسي. سمَح قِصَرُ الزمن بتقليل المحن.

تحققت الثورة السورية يوم فر الأسد بشار في 09-12-2024. بعد فارق ثقيل امتد 14 سنة في حرب أهلية عالمية.

إن كل ما صُور قبل سقوط النظام هو مقدمة لتوثيق وقائع الخراب السوري.

لماذا تبدو الأفلام التخييلية عن سوريا كأنها وثائقية؟

لأنها صُورت في ديكورات حقيقية كلفت صفر درهم، لأن عنف الواقع هناك يفوق الخيال، شخصيا لا أتوقع فيلما تخييليا عن سوريا لأن مفارقات الواقع تتجاوز كل انزياحات الخيال.

حاليا، طغت أخبار السجون على صور فرح الجماهير باللحظة التاريخية… تمثل السجون المشهد الخلفي للثورة السورية. عذاب هو ثمرة عقد من الحرب الأهلية والخراب.

في الفن الأسبقية للخيال والأسلبة في التعبير عن الواقع. يصعب على أي فيلم فيه ماكياج أن يتفوق على فيديو يظهر فيه سجين قضى عشرين سنة تحت الأرض. في السياسة الأسبقية للمعطيات الآنية.

ما الفرق بين الأفلام السورية وواقعها قبل الثورة وبعدها؟

الثورة فعل سياسي مزلزل ومعدي وهو يبهج الشباب المتحمس (الشباب شعلة من الجنون حسب أبي حيان التوحيدي) والمثقف العجوز الذي ينظر من بعيد. كتبت حنة أرندت: “الثورة تفترس أبناءها والضرورة التاريخية ترغمهم”.

لهذا سوابق يجب ذكرها لكي لا تخفي الفرحة بسقوط حزب العبث حقيقة الوضع. خلال انتخابات تونس ومصر بعد الثورة بحث الناس عن مرشح يُرضي ربّنا، فاز الإسلاميون.

ما معنى ثورة تُرضي ربنا؟

الثورات ترضي البشر.

هل يمكن للقوى الدينية أن تقوم بثورة؟

مستحيل؛ لأن المتدين المؤمن يضع نفسه فوق غيره ولا يمكن إقناعه بالمساواة مع المواطنين والمواطنات خاصة. المؤمنون هم الأعلون وهم من سيقرر. لا شيء نسبي بالنسبة لهم.

هل يعقل أن يتلو ربيع الشيوخ ربيع الشبيحة؟

في تونس ومصر، لم تسترجع الثورة الكثير من الأموال التي سرقها الفاسدون. انكشفت البنية الذهنية المضادة للثورة عبر تفاصيل صغيرة.

الإرادة وحدها لا تصنع ثورة رغم أن فكرة امتلاك الأفراد لمصيرهم قد لعبت دورا كاسحا في التاريخ الحديث.

لم تنتج الثورة السياسية بين المحيط والخليج عن ثورة ثقافية تبني الإنسان الجديد، سيبقى الفرد القبَلي والعِرقي والطائفي، وهذا خطر. البيئة الثقافية هي حاضنة كل ممارسة سياسية سواء كانت ديمقراطية أو استبداد.

كان سبب الثورة في مكان آخر: إنه الحاجة الى التنمية والحرية. وقد انطلقت الثورة من المناطق الجنوبية الأقل تنمية.

بدأت موجة الثورات بمطالب العدالة والحرية بين المحيط والخليج، لكن وضع هذا المطلب هش بسبب ضعف الطبقة الوسطى الحاملة للقيم الليبرالية، وهي أساس الديمقراطية.

بعد 15 سنة بؤسا، صارت الثورة الحقيقية للشاب التونسي هي أن يصل إلى شواطئ إيطاليا. كيف تكون الهجرة إلى الشمال ثورة؟

يُنتظر من الأفلام التي ستتلو الثورة أن تبني الإنسان الذي يتبنى قيم الحداثة لتزدهر الديمقراطية وتزهر السينما.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق