إلى أكادير.. كل ما في المملكة يتجه جنوبا؟

0 تعليق ارسل طباعة

الحلقة الثانية:

في الجوار وحش خرافي:

على مشارف البيضاء تتوزع الأضواء الكاشفة، في هذا الليل الصباحي- الذي تمسك بتلابيبه الساعة الثقيلة المضافة، نكاية في غرينيتش- منافذ شتَّى؛ تُظهرها رقصة الظلال والأنوار، كثقوب فضائية سوداء، تبتلع الشاحنات والسيارات.

تتملكني الرهبة وأنا أستحضر هذا الوحش المعماري الخرافي، الرابض في الجوار، بطول خمسين كلم، ونصفها عرضٌ. وحش بسبعة ملايين روح، وبأفواه عِدة؛ تزدرِد وتنفث عبر مخارج:

الجديدة، برشيد، الرباط، مراكش، ثيط مليل وغيرها..

وعبر الميناء، ومطاري محمد الخامس، وتيط مليل؛ في اتجاه العالم، الذي عرفَ شريطَ:

CASABLANCA الرومانسي (1942) قبل المدينة.

أتذكر الآن أن حدهم قال بعد أن استوى باحثا سوسيولوجيا أكاديميا: “كنت أخاف من الدار البيضاء، اليوم أصبحت أخاف عليها”.

في ما يخصني أزورها لماما، وأجدها، رغم شساعتها، ضيقة؛ لأنها بناطحاتها، وعاليتها الدكناء غالبا، لا تفسح للسماء والقمر والنجوم؛ كما في بوادي الشغف التي أجِلُّ، حيث تقطن الجبال، مطمئنة وراسخة منذ الأزل.

ولي فيها ذكريات سيئة مع دار للنشر، تحيَّفتْ حقوقا للتأليف المدرسي، للجنة كنت أترأسها، بأكاديمية القنيطرة (وقتها).

أنت في سفر استجمام، يا هذا، دعك من صداعٍ للرأس تقاعَدْتَ عنه منذ عشرين عاما.

بقدر ابتعادنا عن خرائط الوحش، ذات الجذب المغناطيسي، يتلاشى تدريجيا هدير الطريق السيار؛ ونمضي، حامدين الله على سلامة العبور، إزاء الثقوب السوداء، رفقة الراحلين جنوبا.

من هنا مر رجل قوي:

صبَّحنا طريقَ برشيد سطات، وقد لاح نور الشمس، الهُوينى الهوينى؛ مُزيحا غلالة الظلام على سهول الشاوية، فبدت لنا وكأنها في صلاة استسقاء لا تنتهي، ولا تكُفّ تلِحُّ؛ تؤمُّها شاحبات الشجر ليس إلا.

أوَ تحتاجُ الطبيعة إلى من يؤم استسقاءها غيرَ ذات الدَّوح، وذاتِ الصهيل والثُّغاء، وكل ما يدْرُج فيها ويطير ويزحف.

تذكرتُ صلاة استسقاء تمت ذات جفاف، جوار المحيط الأطلسي؛ هل لها معنى مائيا ما، غير تعبُّديتها المقررة شرعا؟.

أراها الآن مقبولةَ مِن سهول الشاوية، ولا أرى لها توجها إلى غير الإنسان، الذي بوسعه إيصال البحر إلى حيث يشاء.

وهل ثبت أن مانع البحر في أن يكون رواءً للبرِّ سهلاً وجبلا؟.

وعليه فقبل الجفاف تجِفّ منابعُ الإبداع.

أن يمضي المغربي، الراشد اليوم، صوب سطات، ولا يتذكر “فارسها” الراحل إدريس، الذي كان يُمطر السماء في المغرب، ويُجففها متى شاء؛ فهذا مستحيل:

il faisait la pluie et le beau temps

من منا ينسى: “العام زين”، يقولها أهل الوبر في جميع الأحوال.

ترحَلُ الآن إلى مداخل سطات، وينفذ هو إلى مِخيالك بلكنته الشاوية، مهددا متوعدا في البرلمان – وتحت يمناه ملفات فارغة – وطرْفُ عينه ممنوح لمن لا يقصد؛ ومن يقصد يفهم أن هذه “الجذبة السطاتية” تخصه.

إذا جئتَ فامنح طرْف عينك غيرَنا**كي يَحسبوا أنَّ الهوى حيث تنظرُ (عمر بن أبي ربيعة)

بدأ شرطيا ثم ارتقى إلى الوزير، الأب والأم، لكل الوزراء. ثم ارتقى معرفيا، حسب الزعم، ليؤلف :édification d’un état moderne.

من قال إن شرطي المرور عليه أن يفهم في السير والجولان فقط؟.

ذات رحلة ملكية محمدية إلى طنجة رُحِّل إدريس رحلته الأخيرة، من دولة حكم فيها بدهاء كبير.

لكلِّ حقبة رجالها.

ولم يعد إلى عاصمة الشاوية أبدا. أحبها وأحبته، حتى غدا مرادفا لاسمها، وإن لم يدفن فيها، فقبره في تاريخها وجغرافيتها؛ ولا يعبُر المسافر، اليوم، إلا وهو مُمسك بتلابيبه.

الكل يتجه جنوبا:

عبر طريقين سيارين، أحدهما ثعباني إسفلتي، أسلم أغلب زِحامه للبيضاء، برشيد وسطات؛ والآخر وجداني، يتحدى الزمكان، لكنه لا ينجو من الزحام.

ها أنت تُمدد امتدادك إلى الجنوب، وقد كنت، قبلا، تقف به في المدينة الحمراء.

على غرار المملكة الشريفة التي فرضت نفسها – وفي تخومها القديمة – مملكةً للصحراء.

كلُّ ما فيها، اليوم، يتجه جنوبا، بعد أن كان كل ما في الجنوب يَصَّاعدُ اليها، مُجددا دماءها.

حتى العلاقة مع العالم جعلها عاهل البلاد تحتكم إلى الجنوب؛ فإن أجازتها الصحراء أجازتها الدولة، وبها ونعمت، كما كان يردد شيخ المالكية المغربية الحديثة، عبد الكريم الداودي رحمه الله.

طاول الرئيس الفرنسي ماكرون برج “إيفل” تنطعا؛ وفي الأخير ركع لأرشيف بلاده، الذي يعرف كل الخرائط، وكل الأسرار.

أكثر من استسلامه لحجية هذا الأرشيف الاستعماري قرارُه بتسليمه لذويه.

ألم يُكتب بمداد من دماء الشهداء؟ فمن أحق به غير ورثتهم؟.

حتى السياسة تتجه جنوبا:

قالها، وإن بتعبير آخر، الأستاذ وهبي –الوزير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس- جهارا نهارا.

القلب النابض للمملكة، اليوم، في سوس:

منها رئيس الحكومة، ومنها هو الأمين العام – وقتها – لحزب التجمع الوطني للأحرار، ووزير العدل، ومنها الأستاذ الطبيب العثماني، رئيس الحكومة الأسبق، وآخرون.

وعليه إذا كان محرك الدولة يسير بالزيت فهي زيت أركان.

أما رئيس الحكومة الأستاذ أخنوش – السوسي اللبق، الذي لا وقت له ليشغل الناس – فأعقل من أن يقولها كلاما سياسيا حافيا؛ فهو رجل أعمال، ويفضل قواميسها الخاصة، وهي بغير حروف وكلمات.

ارتقى الرجل الصامت – فصاحة- إلى مصاف الثروات العالمية الثقيلة جدا.

وبالمناسبة فلا يمكن لمخيال المسافر –في جميع الاتجاهات – ألا يستحضر “الخنوشية” الطاقية، وهو يتوقف بمحطات الاستراحة وغيرها.

فحيثما وليت وجهك تجد إفريقيا الزرقاء لا السوداء.

على قدر الجود، والإخلاص المالي للوطن، يُرحَّبُ بالثروة الوطنية؛ ويكفيها أن تُنعت بهذا.

أليست التنمية الوطنية معركةَ فرسان المال والأعمال؟.

وتزداد مسؤوليتهم إذا تلبستهم السياسة والحكومة؛ فبدل الربح الشخصي الواحد يطالبون بربحين: ربح المال وربح الوطن.

وفي هذه “ماذا يكسب الإنسانُ إذا ربح الدنيا وخسر نفسه”.

ونتمنى في هذا البلد، المربح، والمربوح فضلا من الله، والرابح؛ ألا يخسر فيه أحد نفسه، كبُر فيه شأنه أم تواضع.

أكل هذا في الطريق إلى أكادير؟

نعم وزيادة، وكل من ذكرت معالمُ في الطريق – حقيقة ومجازا – تتبدل حسب الظروف والأحوال.

وقد يعبر الطريق نفسَها، في المستقبل البعيد، مسافر آخر؛ فتكون له معالم أخرى يذكرها.

عابرون في معالم عابرة.

“يتبع”

إخترنا لك

0 تعليق