بين الألوان والجدران .. رحلة عبر الزمن في تاريخ الفن واستحضار ذاكرة المكان

0 تعليق ارسل طباعة

ذاكرة وتاريخ ورموز اجتماعية

يُبرزُ كتاب الأستاذ عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، الصادر مؤخرا عن منشورات Quid.ma:” أحدثكم عن تلك الأوقات التي كانت (تقريبًا) سعيدة” Je vous parle des temps (presque) heureux رؤيةً فكريةً وجماليةً مُتكاملةً تُوّحدُ بين محورين أسَاسييْن: تأمّلّ عميق في الفن التشكيلي المغربي، بما ينطوي عليه من أبعاد تاريخية وتجارب مختلفة، واستحضار لذاكرة المكان بما تحمله من دلالات حضارية وثقافية، أبرزها مدينة الرباط لاسيما موقعها الأثري “شالة”، إضافة إلى مراكش وأضرحتها التاريخية، وأغمات التي تحتضن إرثًا غنيًا بشواهده الحية. ي

مثل هذا المزج بين ألوان اللوحات وروح الأمكنة احتفاءً بالعلاقة المتبادلة بين الإبداع وتعلّقه بالأمكنة والفضاءات. من هنا، لا يقتصرُ هذا الكتاب الجميل Beau- livre على تحليل الأعمال الفنية باعتبارها تجارب منعزلة، بل إنه يربطها بسياقاتها الفكرية والثقافية، مما يجعل من الجدران ذاكرة حيّة، ومن الألوان وسيلة لإعادة تشكيل الهوية الثقافية للأمكنة. بهذا المعنى، لا يَعتبرُ عبد الجليل لحجمري في هذا الكتاب المكان مجرد فضاء جغرافي، بقدر ما يتصوّرهُ نسيجا ثقافيا تتداخل فيه الذاكرة والتاريخ والرموز الاجتماعية، ولذلك تتحدد دلالته من خلال التراكمات الحضارية التي تشكّل هويته، فتصير أزقته لغة، ومعالمه نصوصًا شاهدة على التحولات الذهنية والمخيال الجمعي.

يكشف عنوان هذه الدراسة “أحدثكم عن تلك الأوقات التي كانت (تقريبًا) سعيدة” عن نوع من التحفّظ في وصف لحظات مضتْ كانت تحمل بعضًا من الفرح، لكنها لم تخلُ من التناقضات أو النقص. فالكلمة “تقريبًا” تمنح السعادة بُعدًا ملتبسًا، إذ توحي بأنها لم تكن تامة ولا مستقرة، بل حالة عابرة يشوبها التردد والهشاشة. وتتجلى في هذه العبارة فجوة بين “سعادة” وُجدت على حافة الاكتمال دون أن تُدركه، وبين “حقيقة” كانت قيْد التَّكوّن، لكنها لم تبلغ مُنتهاها كما كان ممكنًا في لحظات أخرى.

وعلى هذا النحو، يحمل توظيف كلمة “تقريبًا” في عنوان هذا الكتاب إيحاءً دقيقًا بالمفارقة بين واقع اللحظة المثقلة بمعالم الفرح وبين صورتها المثالية التي لم تتحقق بعد. تكشف هذه المراوحة بين لحظات الفرح العابر وإدراك زوالها عن حنين دفين لأزمنة خاطفة، لامست الوجدان دون أن ترْويَهُ، وظلت قاصرة عن الإيفاء بتوْق القلب إلى سعادة تتجاوز حدود العابر والزائل.

ترتكز دراسة عبد الجليل لحجمري على أطروحة فكرية تتقصّى التداخل بين الفن والوجود والزمن، حيث تمثل الذاكرة محورًا دلاليًا يعيد تشكيل العلاقة بين الماضي والحاضر.

فدراسته ليست مقاربة جمالية فحسب، بل إنها بحثٌ متشعّب في التاريخ والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي والفني والثقافي، يسبُر أغوار التحولات التي تطرأ على الهوية، ويكشف كيف يعيد الفن إحياء الزمن واستنطاق الذاكرة بوهج جديد.

ما ترويه كلّ ضربة فرشاة …

يتكوّن هذا الكتاب من دراسات تمتدّ على مئتي صفحة، تأخذ القارئ في رحلة عبر الزمن، مستكشفةً تاريخ الفن التشكيلي في المغرب، ومتنقلةً بين فضاءات أماكن الذاكرة، حيث تتقاطع التجارب الجمالية مع التحولات الثقافية والاجتماعية، في مسعى لإعادة رسم ملامح المشهد التشكيلي المغربي عبر العصور.

ينسج لحجمري هذه القضايا برؤية نقدية متأنية، تسائل الجماليات والتفاعلات الثقافية التي أسهمت في تشكيل ملامح هذا الفن، ضمن سرد متماسك وتحليل يجمع بين العمق والوضوح.

في صفحاتٍ مضيئة، يُقدّم عبد الجليل لحجمري تأملًا دقيقًا في اللوحة الجنائزية الغامضة لأبي يعقوب يوسف المريني بشالة، متتبعًا مسار “المرتد” أحمد العلج الإنجليزي في المغرب خلال عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله. رحلةٌ تأخذنا من المنفى بأغمات حيث يلتقي المعتمد بن عباد بتأملات صوفية عنْ ضريح سيدي بلعباس في مراكش، لتصل بنا إلى “جمهورية سلا”، التي كانت مجرد سراب في مسار التاريخ؛ ويختتم لحجمري سرده بمغامرة الكاتب المالي يامبو أولوغويم، التي يكتنفها غموض يسعى إلى خلق فراغ تتخلله الحيرة، حين تصبحُ الحياةُ مُحاطة بهَالة من الشَّكّ والإبْهام. كتابة لحجمري سردٌ يَعْبُرُ بين التاريخ والرمزية، بين الواقع والأسطورة، ليصلَ بين اللحظات والأفكار بتنسيق مُحكم؛ وهذا ما عبر عنه نعيم كمال في تقديمه مثلا متحدثا عن أغمات:” في أغمات، يتتبع المؤلف في القصة الحزينة والرومانسية للمعتمد بن عباد تجليات الأندلس في المغرب أو ما يُسمى بالمغرب الأندلسي … فالمعتمد بن عباد ويوسف بن تاشفين … شخصيتان عظيمتان متكاملتان، يختلفان في أسلوب حكهما بيد أنهما شكلا ركيزتين أساسيين في تكوين الهوية المغربية”.

بهذا الإصدار الجديد، يفتح عبد الجليل لحجمري آفاقًا فكرية غنية عن ماضٍ متألق، تتقاطع من خلاله ملامح الفن التشكيلي المغربي مع ذاكرة الأمكنة، ليقدّم للقارئ رؤية تتجاوز التوثيق، لتُعانقَ تصوّرا فلسفيا للآثار التي أسهمت في تشكيل الوعي الجمعي للمغرب القديم والمعاصر. ليست هذه الآثار الفنية والعمرانية، التي يحلّل لحجمري أبعادها الرمزية، مجرد شواهد مادية جامدة، بل هي مرايا لحضارة ضاربة في عمق الزمن، تستقي جوهرها من تجربة إنسانية زاخرة، تمتزج فيها الأبعاد الحسية بالمعاني الرمزية في تفاعل لا تفصمه تقلّبات العصور. إنها نابضة في الذاكرة الثقافية، تستحث استنطاق الماضي وتفتح آفاق تأويل الحاضر، إذ تعيد وصل الحاضر بالجذور، فتغدو رافدًا حيويًا في بلورة التصورات وتوجيه المسارات الثقافية للأجيال القادمة.

هكذا، يحوّل عبد الجليل لحجمري قراءاته للوحات والأمكنة إلى صدى حيّ لذاكرة جماعية، تتشابك فيها خيوط الماضي مع رمزية الحاضر، بحيث تروي كل ضربة فرشاة قصة تاريخ عريق، يعيد تشكيله في صورة جمالية جديدة.

كل لون وخطّ يحمل في طياته سردًا مختصرًا لحكايات أجيال، تلخص آمالهم وآلامهم، وتوثق للحظاتٍ محورية من تاريخهم. وبهذا، تصبح اللوحة أرشيفًا حيًا، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الماضي باعتباره ذاكرة مستمرة والحاضر بوصفه امتدادا حيّا له. وهذا ما أبانه لحجمري بتحليله الفكري والفلسفي للَوَحات كل من: أمين الدمناتي؛ حسن لكلاوي؛ محمد المليحي؛ أحمد اليعقوبي؛ بوشعيب الهبولي؛ ميلود الأبيض؛ بوشتى لحياني؛ عباس صلادي؛ محمد بناني؛ سعيد قديد؛ اللوحة الفنية في تصوّر لحجمري تجسيدٌ حيويٌ لارتباطنا بزمان ومكان يظل حاضرًا فينا ويشكل رؤيتنا للعالم.

كيف تتداخل الحياة اليومية مع إرث التاريخ؟

لا ينظر عبد الجليل لحجمري إلى الفن التشكيلي المغربي بوصفه مجرد تجلٍّ جمالي، بل يراه سجلًا بصريًا يوثّق تحولات الهوية المغربية في تفاعلها مع البنى الاجتماعية والثقافية. فهو يعتبر اللوحة الفنية مرآةً تستعيد الذاكرة الجماعية، حيث تتعانق الأشكال وتنصهر الألوان لتجسّد مسارات التاريخ وانفعالات الوجدان عبر الزمن. ومن هذا المنطلق، يتعامل لحجمري مع الفن بوصفه نصًا بصريًا نابضًا بالحياة، يختزن أبعادًا دلالية وتاريخية، ويرصد التحولات العميقة التي شهدها المجتمع المغربي في سياق انفتاحه على الثقافات العالمية. وهكذا، يغدو الفن التشكيلي مرآةً لحركية الهوية المغربية، تعكس تعدديتها وحيويتها، وتجسّد صيرورتها في تفاعلها المستمر مع الزمن والمكان.

ما يمنح دراسة لحجمري فرادتها انشغالها بإيجاد انسجام فكري بين الفنّ والمكان. تكشف هذه العلاقة المتبادلة بينهما عن تكامل حيوي، إذ يصبح المكان فضاءً ينبض بإبداع يتجسد فيه تاريخ المكان وتطلعات الفنان، حين تلتقي الأبعاد الزمنية والمكانية لتنسج رؤية فنية تسهم في إعادة صياغة الهوية الثقافية وإحياء ذاكرة المكان بألوان الفن وأشكاله.

لا يقتصر لحجمري على تحليل هذا التداخل الجليّ بين الفنّي والمكاني، بل يستكشف أبعاده الفلسفية، مستعرضًا كيفية تحول الفن إلى تعبير عن الزمن والمكان معًا، وكيف أن هذا التفاعل يفتح أفقًا جديدًا لفهم الواقع. من هنا، يعمدُ لحجمري إلى تفكيك العلاقات بين الأبعاد المكانية والزمنية في الأعمال الفنية، مُبينًا كيف يُمكن للفن أن يكون وسيطًا بين الأبعاد المجردة وتجارب الحياة، وذلك من خلال تداخل الذكريات والتاريخ مع الحاضر والآني. لا يتوقف هذا التحليل عند حدود النظر إلى الفن باعتباره تمثلا جماليا فحسب، بل ينظر إليه بوصفه وسيلة للبحث والتأمل، من خلاله نكتشف ما يربطنا بالزمن وبالمكان، وما يكشفه من أسئلة فلسفية حول الهوية والوجود ومعنى الانتساب إلى المكان.

من هذا المنظور، يفتح الكتاب أفقًا جديدًا لفهم الهوية والذاكرة الثقافية والعمرانية المغربية. الرباط في دراسة لحجمري، ليست مجرد مثال على المدن المغربية، بل هي رمز حضاري يجسد التقاء الأصالة بالحداثة، حين تنصهر تفاصيل الحياة اليومية مع عراقة التاريخ. اختيار الرباط لم يكن اعتباطيا، بل هو تعبير عن رمزية عميقة يجسّد مكانتها بوصفها عاصمة ثقافية وإدارية، تحمل في ثناياها عبء التراكمات التاريخية وآمال المستقبل. بفضل تنوعها الثقافي والمعماري، تمثل المدينة نموذجًا حيًا للتفاعل بين الماضي والحاضر، وبما يتماشى مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها البلاد.

يعيد التحليل الفلسفي والجمالي الذي يقدمه الكتاب إذا صياغة العلاقة بين الإنسان ومحيطه، سواء كان ذلك من خلال أفق الفنان الإبداعي أو عبر الذاكرة الجماعية التي تشكلها المدن والفضاءات. يسلط الكتاب الضوء على كيفية تأثير هذه الأماكن في تشكيل الهوية الفردية والجماعية، ويستعرض كيف تتحول المدن إلى شواهد حية على التفاعلات الثقافية والاجتماعية. من خلال هذا التحليل، يظهر كيف أن الفضاءات الحضرية ليست مجرد بيئة مادية، بقدر ماهي فضاءات معرفية ووجدانية تنبض بالحياة.

الفن … ذاكرة بصرية وتاريخية

يشكل التاريخ الرَّابطَ الخفيّ بين فصليْ هذا الكتاب البديع، حيث تتداخل فيه ملامح الفن والمكان ليعكسا معًا تحولات الزمن. تنطوي الأعمال الفنية التي حللها عبد الجليل لحجمري على بصمات دالة من الماضي، في حين تبقى مدن مثل الرباط وسلا ومراكش وأغمات، بتراكماتها التاريخية، شاهدًا حيًا على التحولات الثقافية والاجتماعية التي شكلت مسارها عبر توالي الأزمنة والحضارات.

يعكس هذا التداخل رؤية متكاملة للفن باعتباره تجربة جمالية وبصرية تحملُ في طياتها ذاكرة تاريخية تعيد تشكيل الهوية المغربية عبر تفاعل مستمر بين التراث والتحديث. ولا شكّ أن التّكامل الذي يعرضه عبد الجليل لحجمري بين الفلسفة والجماليات يمنحه بعدًا معرفيًا يتجاوز الوصف والقراءة التأملية للفن وللمكان، مما يجعل النص أشبه برحلة تأملية عميقة، تتنقل بالقارئ بين طبقات المعنى وتقوده إلى سؤال مركزي: كيف يمكن للفن أن يعيد تشكيل هويتنا ووعينا بالمكان؟

ينطوي هذا الجمع على أبعاد فكرية وفنية تعكس انسجامًا واضحا بين الفن والمكان، بالإمكان صياغة أبرز مظاهره من خلال ما يلي:

الفن باعتباره مرآة للهوية الثقافية

يعتبر الفن التشكيلي وثيقة بصرية تُحاكي تطور الهوية المغربية على مر العصور؛ ذلك أنه يشكل أداة للتعبير عن التفاعل المستمر بين الثقافة المحلية والمؤثرات الخارجية، ذات الصلة بمختلف مراحل التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد. من خلال لوحاته المتنوعة، يعكس الفن التشكيلي تجارب الإنسان المغربي وهويته، ويُظهر الصراع والانسجام بين الحداثة والتراث. وبذلك، يصبح الفن التشكيلي نافذة للتأمل في تاريخ الأمة ورؤاها المستقبلية، حيث تنطوي كل لوحة على سرد حي لتاريخ وقيم، تبرز جمالية خاصة في التعبير عن روح المكان والزمان. يشترك الفنانون التشكيليون الذين حلّل لحجمري تجاربهم الفنية في بحثهم المستمر عن إيجاد صيغة فنية تعكس الواقع المغربي المعاصر بكل تعقيداته، حيث إن كل واحد منهم قدم رؤية فنية تجمع بين الانتماء إلى التراث والحداثة. من خلال أعمالهم، استطاعوا مزج الرمزية الثقافية والموروث الشعبي مع تقنيات فنية معاصرة، ما جعلها تكتسب خصوصية لافتة في السياق العربي والعالمي. على الرغم من تنوع أساليبهم بين التجريد، والتعبير، والانطباعية، إلا أن القواسم المشتركة بينهم تتجسد في تركيزهم على البعد الاجتماعي والثقافي. ففي هذا السياق، يظهر اهتمامهم بتجسيد الهوية المغربية عبر أشكال وألوان نجحتْ في تقديم أعمال فنية دمجتْ التراث الثقافي المحلي مع الروح المعاصرة. بذلك، تتيح هذه الأعمال للمشاهد فرصة لالتقاط تفاعل المجتمع المغربي مع التحولات الحديثة حفاظا على صلة وثيقة بجذوره الثقافية.

التكامل بين البصري والتاريخي

يشكل التكامل بين البصري والتاريخي في الفن التشكيلي المغربي أفقًا فكريًا لفهم تطور الهوية الوطنية، حيث لا يقتصر الفن على الأبعاد الجمالية فحسب، بل يتعداها ليصبح وثيقة بصرية حية تعكس الحقب التاريخية المتعاقبة. يدافع لحجمري في دراسته عن هذا التكامل بين الأبعاد البصرية وما ترمز إليه من إيحاءات تاريخية، نعتبرها اليوم ملمحًا من ملامح هوية مَرنة، تتفاعل باستمرار مع التحولات الثقافية والاجتماعية، ما يجعلها قابلة للتجديد دون أن تفقد ارتباطها بجذورها الضاربة في عمق التاريخ.

فضاء ثقافي غني بالمعالم والأعلام

يختم عبد الجليل لحجمري كتابه برسالة مفتوحة وجّهها للطاهر بن جلون عبارة عن استدراكات كتبها بعد قراءته لكتابه “قاموس عاشق للمغرب”، وهو كتاب مفيد وممتع يقدم ” المغرب الذي نحبّه كثيرًا والذي يمنحنا الحياة”، كما كتبتَ بن جلون في الإهداء الشخصي الذي خصّ به النسخة التي أهداها للحجمري.

رسالة لحجمري المفتوحة لبن جلون نص أدبي بملامح سير ذاتية، يقترح من خلالها إغناء القاموس بعدة مداخل أغفلها بن جلون ومن أبرزها في مجال الغناء فن الملحون، الذي أدرجته اليونسكو مؤخرًا ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي للإنسانية، مُقرّةً بأن نصوصه “تعكس مختلف جوانب الحياة (…) وتُؤدّى أبياته بالعربية وأحيانًا بالعبرية، مصحوبةً بألحانٍ تُعزف على آلات تقليدية كالعود والكمان والرباب والطبل الصغير. وتتنوّع موضوعاته بين الحب وأفراح الحياة، وجمال البشر والطبيعة، والابتهالات والأدعية، والسرور والاحتفالات، والطعام، والأسفار الخيالية، والأحداث السياسية والقضايا الاجتماعية (…) كما تزخر قصائده برسائل أخلاقية تحثّ على الحوار البناء. يجمع الملحون بين الغناء والمسرح، ويوظّف الاستعارة والرمزية في لغة بسيطة تنبض بالحياة، ضمن أجواء احتفالية آسرة”.

يُعدّ فن الملحون، في تقدير لحجمري، من أعمق منابع التعبير المسرحي والموسيقي، إذ تجلّت أصداؤه بوضوح في أعمال الطيب الصديقي، الذي استلهم إيقاعاته وبنيته الشعرية في صياغة فرجة مسرحية متجذّرة في الوجدان الشعبي. كما كان الملحون منبع إلهام لفرق موسيقية بارزة، مثل ناس الغيوان، وجيل جيلالة، والمشاهب، التي نهلت من روحه الإبداعية، فحوّلت ألحانه وإيقاعاته إلى وسيلة تعبيرية ثرية، مدشّنةً مرحلة مزدهرة من الفن الغنائي المغربي، حيث انصهرت الكلمة بالنغم الحي، مُشكِّلة جسراً نابضاً بين التراث والتجديد.

في رده على الرسالة المفتوحة، عبّر بن جلون عن امتنانه للحجمري على قراءته الدقيقة، مؤكّدًا اتفاقه مع جميع ملاحظاته ومقترحاته، ووعده بإدراج التعديلات اللازمة، إلى جانب بعض التصحيحات، في الطبعة المقبلة من القاموس. إلا أن ما استوقفني في رده حديثه عن مدينة الرباط، إذ وصفها بأنها تغيّرت كثيرًا حتى بات من الصعب عليه، على حدّ تعبيره، التعرّف عليها كما كانت في شبابه. كما أعرب عن تقديره لما تعلّمه من لحجمري حول شخصية زغلول مرسي، الذي وصفه بالرجل الأنيق صاحب التأثير العميق عليه، مشيرًا إلى أنه يستحق مدخلاً تعريفياً أوسع. ولم يخفِ استغرابه من غياب أكاديمية المملكة المغربية عن مداخل القاموس، معترفًا بأنه لم يكن على دراية كافية بها أثناء تأليفه، وقد أضحت لها اليوم مكانة مُعتبرة في فضائنا الثقافي المغربي والعربي والعالمي؛ كما أقرّ بأن العمل يفتقر أيضًا إلى شخصيات بارزة مثل الطيب الصديقي، إلى جانب أسماء أخرى، من بينها فاطمة لمرنيسي ومحمد لواكيرة، الذي ترك رحيله في نفسه أثرًا بالغًا.

لا شك أن ردَّ بن جلون على رسالة لحجمري، رغم قصره، يُظهر بوضوح وعيه بالطبيعة المتجددة للمعرفة، إذ لا تمثل القواميس مجرد أرشيف ثابت، بل هي مشاريع حية تتطلب إعادة النظر والإغناء المستمر؛ من خلال اعترافه بغياب بعض الأسماء والمعالم، لا يُقرّ بن جلون فقط بوجود فراغات في القاموس، بل يلمح أيضاً إلى التحولات المتواصلة التي طالت الأمكنة والأعلام في سياقات متغيرة. فالمغرب، بما يحتويه من إرث ثقافي ومعرفي، هو فضاء غني بالمعالم والأعلام، ذاكرة حية تعكس تفاعل الإبداع والفكر، بأصوات أدبية وفنية وفكرية، تشكل جزءاً لا يتجزأ من الوعي الجمعي تغني مشهدنا الثقافي بالتجديد والتنوع.

ورغم ذلك؛ يبدو أن” قاموس عاشق للمغرب” للطاهر بن جلون لا يعكس عشقًا للمغرب بقدر ما يعكس رؤية بن جلون الخاصة، بما تحمله من انتقائية واضحة في اختيار المداخل وإغفال لجوانب جوهرية تتصل بالأعلام والأمكنة والتجارب؛ وبدَل أن يكون القاموس سجلًا معرفيًا شاملًا، جاء أشبه بانطباعات ذاتية لا تخلو من ثغرات تجعل الصورة المقدمة عن المغرب غير مكتملة، بل ومحدودة الأفق.

لذلك، يطرح هذا النقص تساؤلات حول طبيعة العمل: هل هو فعلًا قاموس أم مجرد بوح شخصي مقنّع كتبه بن جلون بلغة موسوعية؟ وما الذي يجعل من نص كهذا بحاجة إلى مراجعة ونقد وإغناء ليكون أكثر تمثيلًا لتعددية المغرب الثقافية والاجتماعية والفكرية؟

الثابت والمتحول في الثقافة

من هذا المنظور وبرسم الاختتام أقول: يبقى كتاب عبد الجليل لحجمري مؤلفا فكريا حاملا لتحديات فلسفية حول الثقافة والهوية، يعيد من خلاله وأسلوبه الأدبي الجميل صياغة العلاقة بين الماضي والحاضر، بشكل لا يتوقف عند حدود التحليل النظري، بل يذهب إلى ما وراء الكلمات والمفاهيم السائدة. بهذا، يشكّل الكتاب نافذة مشرعة لفهم كيف تساهم الذاكرة الجماعية في تشكيل الهوية الثقافية، وكيف تتحرك بين الثوابت والمتغيرات في مواجهة التحولات الكبرى. كل فكرة في هذا الكتاب تحثّ القارئ على إعادة النظر في التقاليد والأفكار المألوفة، وتدفعه إلى مساءلة الأسس التي تشكّل وجودنا المشترك في عصر تتداخل فيه الأزمات الثقافية والاجتماعية.

لا يكتفي لحجمري بالحديث عن التّحولات الثقافية، بل يفتح الباب للشكّ في “التحولات الثابتة”، ليُثير بذلك مسألة العلاقة بين الثابت والمتحول في الهويات الثقافية. إنها دعوة للمثقف والمجتمع على حد سواء، لإعادة النظر في الفجوات التي تمتلئ بها مفاهيمنا عن الثقافة، وفهم هذه الفجوات باعتبارها أداة لإغناء الفهم وإثراء النقاش.

أستخلص مما سلف أن كتاب لحجمري يدعونا إلى إعادة تمثل تصوّراتنا للثقافة، بعيدًا عن التصورات التقليدية التي تقتصر على النظرة الأحادية، ليطرح أمامنا فهمًا أعمق وأكثر شمولية يتجاوز الحدود الجغرافية والزمانية. فهو يشجعنا على تجاوز الرؤى التقليدية المغلقة، ويحثّنا على إعادة قراءة التراث الثقافي في ضوء التحولات المعاصرة، مما يساهم في إعادة تشكيل الهوية الوطنية بشكل أكثر مرونة وتكيفًا مع متغيرات العصر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق