شواطئ.. الاغتراب في أدب يحيى حقي (1)

0 تعليق ارسل طباعة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ولد يحيى حقي في السابع من يناير سنة 1905 بحي السيدة زينب بمدينة القاهرة، حيث استقى ثقافته الأولى في ظل أسرته، وبعد التحاقه بكلية الحقوق، بدأ يكتب القصة للمرة الأولى في حياته، وقد تزامن ذلك مع ثورة 1919 حيث كانت الظروف قد تهيأت لازدهار فن القصة والرواية على السواء، فالصحف الحزبية قد أتاحت مجالا واسعًا لنشر القصة، بالإضافة إلى عوامل اجتماعية دفعت بالكتاب لكتابه القصة، والاتجاه بها نحو المنحى الواقعي معبرين عن واقعهم الجديد. وفى ظل ذلك النشاط الأدبي نشأت المدرسة الحديثة التي انضم إليها يحيى حقي واعتنق مبادئها، وازدادت على مر السنوات صلته بفن القصة، بخاصة بعد عمله بالسلك الدبلوماسي وتنقله بين بلدان عديدة زادت من خبراته وثقافته، فهو من أشهر رواد فن القصة القصيرة في مصر.   

وتطرح الباحثة عطيات أبو السعود في كتاب بعنوان "الاغتراب في أدب يحيى حقي.. دراسة أدبية من منظور نفسي" والصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لظاهرة الاغتراب في الإبداع القصصي والروائي عند يحيى حقي. فتعرف الباحثة مفهوم الاغتراب بأنه انفصال الإنسان عن وجوده الإنساني، ويمثل هذا الانفصال جملة من الأعراض التي يمكن ذكر بعضها مثل العزلة الاجتماعية، والتشيؤ، واللا معيارية والعجز، واللا معنى والتمرد. فتمثل رواية " قنديل أم هاشم " نوعًا من التماهي بين رؤية فكرية تتبلور في واقع متغير، وسياق درامي تتجاذب أبطاله صراعات شتى، تصل ذروتها مع شخصية إسماعيل بطل الرواية، ذلك الشاب الذى نشا في بيئة شعبية (حي السيدة زينب)، وأصر أبوه على إرساله إلى أوروبا لدراسة الطب، فيسافر إسماعيل محملًا بتراث الشرق وعاداته، ومتأثرًا بحياته البسيطة التي لم تكن تخرج عن الحى والميدان، أقصى نزهته أن يخرج إلى النيل ليسير بجانب النهر أو يقف على الكوبرى، وفى محيط يعيش أجواء الأساطير، ويحلق في فضاءات عوالم مفارقة من الروحانيات، حيث يؤمن الناس بالخرافة، ويجاورون أرواح الأولياء، ويستأنسون بها، ففي " ليله الحضرة يجئ سيدنا الحسين والإمام الشافعي يحفون بالسيدة فاطمة النبوية والسيدة عائشة. 

ورواية "قنديل أم هاشم" للكاتب الكبير يحيى حقي توضح حال البلاد، من فقر وجهل ومرض، تكشف النقاب عن شخصيات القصة، لتعكس أوجه الاغتراب ومظاهره من خلال بطل القصة "إسماعيل"، الذي عاش في رحاب حي السيدة زينب، والذى كان يعيش في كنف أبية وأمة، ويحاول كل منهما توفير احتياجاته، ولو على حساب نفسه، كما تعيش معه في البيت ابنة عمه اليتيمة "فاطمة النبوية" كانت دائما تسهر معه حين يذاكر، وتتطلع إليه بعينين مريضتين محمرتين الجفان، وكانت ترى فيه أنه كبير في نظرها، لأنه يعرف أكثر لأنه يتحدث لغة الغرب، بينما هو لا يرى في هؤلاء الفتيات سوى رؤوس خاوية.

عاش "إسماعيل" في رحاب السيدة الطاهرة تربى على القيم والمبادئ، وبيت يقرأ فيه القرآن وتردد فيه الأوراد، ويرى قنديل أم هاشم المعلق على المقام الذي لا يمكن للجدران أن تحجب نوره أبدًا. 

عاش "إسماعيل" وسط نداءات الباعة بنغمها الحزين، وبائع الدقة الأعمى والشحاذ والطرشجى، مع الفئات المطحونة من عامة الشعب، التي تعيش الواقع المر. تفانت أسرة " إسماعيل " البسيطة الكادحة، لتوفير له نفقات التعليم في الخارج، ليتعلم الطب الذي لم يؤهله مجموعه لدراسته في بلده، جمع الأب كل ما أستطاع من مال، وباعت الأم حليها، واشترت تذاكر السفر والملابس الثقيلة، التي تفيه من برد أوروبا واقترب موعد السفر، وحل الوداع وودعته الأسرة بقلوب حزينة واعين دامعة، ولم ينس الأب أن يوصيه وصيتي لك أن تعيش بره كما عشت هنا حريصا على دينك وفرائضك، وإن تساهلت مرة لا تدري إلى أين يقودك تساهلك، واعلم أن أمك وأنا قد اتفقنا على أن تنتظرك " فاطمة النبوية " ولم يستطع أن يتخلص من الموقف فقرأ الفاتحة مع أبيه، وخرج إسماعيل من القرية الصغيرة بقيم آبائه وأجداده وتعاليم دينه إلى عالم كبير، وفضاء واسع من حولة قضى سبع سنوات في الغربة، في بلاد غير بلاده، وبالتأكيد كان لا بد أن تطرأ عليه بعض التغيرات، فخرج من قريته " عفا فغوى وصاحيا فسكر، كما أنه راقص الفتيات وفسق، هذا الهبوط بمكافئة صعود لا يقل عنه جده وطرافة، ذلك على حد تعبير الكاتب". 

ونجد أن (ماري) زميلته في الدراسة ساعدته على أن يتعرف على عالمها، فوهبته نفسها في أول فرصة، وهنا الكاتب يصف سذاجة وعدم خبرة " إسماعيل " بأنه (عندما وهبتة نفسها، كانت هي التي فضت براءته العذراء) فجعلته يكفر بالقيم والمبادئ ولا يقيم وزنا لتعاليم دينه. فقد بهرته الحياة الجميلة المريحة التي يدفع ثمنها الأبوان من صحتهما وقوتهما والتعامل السهل البسيط في كل شيء مع الفتاة يأخذ كل شيء دون تعقيدات ودون أن تطلب منه شيئا مقابل ذلك لا حدود.. لا قيم. 

لقد بهرته الفتاة بأفكارها وجدالها المستمر كانت تحدثه في الفن في الموسيقى في الطبيعة، بل في الروح الإنسانية عندما كان يحدثها عن الزواج، تحدثه عن الحب عندما يحدثها عن المستقبل تحدثه عن اللحظة الراهنة، كان قبلها يبحث عن شيء خارج نفسه يتمسك به ويستند إليه ألا وهو دينه وعبادته، تربيته وأصولها، لكنها جعلته ينظر إلى كل هذه الأشياء بل أصبح يرى فيها قيودًا كنظرة "ماري" لتلك القيم والمبادئ، بل كانت تعتبرها مشجب لو علق عليه معطفه سيظل أسيرًا لتلك القيم والمبادئ، فكانت أكثر ما تخشاه "ماري" القيود وأكثر ما يخشاه "إسماعيل" الحرية وكانت حيرته محل سخريتها، كانت روحه تتأوه وتتلوى تحت ضربات معولها إلى أن استيقظ في يوم فوجد روحه خراب، لم يبق فيها حجر على حجر، وأين " فاطمة النبوية " ابنة عمه وخطيبته من "ماري" ففاطمة مريضة لا تتكلم وإذا تكلمت لا تجيد فن الكلام، ولا تعرف سوى أن تنظر إلى "إسماعيل" نظرة إكبار واحترام، دون حتى أن تعبر عن هذا الرأي، أما "ماري " فهي تعرف كل شيء بل ربما أكثر منه وتجيد فن الحديث وتحدثه في كل شيء.

هنا اغترب "إسماعيل" عن مجتمعه، عن مبادئه عن قيمه بل اغترب عن ذاته حيث بدا له الدين خرافة، لم تخترع إلا لحكم الجماهير والنفس البشرية، لا تجد قوتها ومن ثم سعادتها إلا إذا انفصلت عن الجموع وواجهتها، أما الاندماج ضعف ونقمة ونجد أنه طبقًا للنظرية النفسية لستوكلز  Stokols عن الاغتراب والتي توضح أن الاغتراب يضمن بعض الأعراض مثل العزلة وغيرها من الأعراض ينطبق الاغتراب على "إسماعيل" لشعوره بالعزلة، سواء عن قيمه أو مبادئه أو وطنه، عندما كان غائبا عن الوطن، أو عندما عاد إلى الوطن بجسده فقط، ولكن "إسماعيل" عاد شخصا آخر بمعتقدات وأفكار جديدة، يحملها من ثقافة غريبة عنه ودين مختلف، لقد اندمج "إسماعيل" في مجتمع مختلف وانعزل عن أفكاره وقيمه ودينه وثقافته. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق