بحضور وازن من الأساتذة والباحثين في التاريخ والمهتمين بهذا الحقل المعرفي، قارب أكاديميون بمقر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، التابعة لأكاديمية المملكة، “التاريخ العالمي للمغرب”، متوقفين بشكل مفصل عند أهمية هذا النوع من التاريخ عموما، وأهم المدارس التي اهتمت به، فضلا عن المقاربة التي اعتمدها روادها لدراسته، والتي “تتجاوز التنقيب الكلاسيكي في ماضي الدول إلى البحث المعمق في التفاعلات والترابطات التي قامت فيما بينها”.
وفي إطار يوم دراسي، حمل ذات عنوان الموضوع المقارب، نُظم الخميس، أكد الأكاديميون وجود “مداخل متعددة لتدارس التاريخ العالمي للمغرب”، تشمل “المدن كطنجة خلال عهد تدويلها، والمواقف والسنوات، بل وحتى الأطباق كالكسكس”، فضلا عن “الخرائط القديمة وكيفية حضوره فيها، والمخطوطات المغربية والملابس”.
“مداخل متعددة”
محمد حبيدة، أستاذ التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، أورد بداية آن “دراسة تاريخ العالم هي دراسة لآليات الاندماج والتواصل بين مختلف مناطق العالم، والهيمنة وآليات مقاومة الهيمنة”، مستحضرا “الدراسات المتعددة للمدرسة الأنجلوساكسونية، وللمؤرخين الهنود عند اشتغالهم في الجامعات البريطانية والأسترالية والأمريكية، على أن فرنسا رغم دخولها المتأخر إلى هذا الميدان، أنتجت دراسات مرجعية”.
وأوضح حبيدة، في مداخلته حول “المغرب وتاريخ العالم في القرن التاسع عشر”، ضرورة “استحضار هذه التجارب عند تناول التاريخ العالمي للمغرب”، مستدركا أن “السؤال المطروح هو طبيعة المداخل الممكنة لقراءة تاريخ البلد من زاوية عالمية، سواء خلال القرن التاسع عشر أو ما قبله وبعده”.
وفي هذا الصدد، اقترح الباحث ” مداخل عديدة؛ من بينها تناول تاريخ البلد من داخله، وكذا مدخل تدارس التاريخ العالمي انطلاقا من مدينة من المدن. ويمكن في هذا الصدد استحضار بيير جوين حول إشبيلية التي أنجزت تحت إشراف بروديل، حيث تتطرق لإشبيلية وتحكمها في المحيط الأطلنتي، وكذا دراسة ياسر بنهيمة حول آسفي ومحيطها”. وزاد: “المثال البارز في هذا الجانب هو طنجة، خصوصا خلال القرن العشرين الذي كانت تتمتع خلاله بالوضع الدولي”.
أما المدخل الثالث، حسب حبيدة، “فيتعلق بإمكانية تناول تاريخ لبلد معين انطلاقا من سنة بعينها؛ فبالنسبة مثلا للمغرب مثلا، يمكن التركيز على سنة 1856، التي وقع فيها المعاهدة المغربية البريطانية التي دشنت على عهد جديد من التعاون الاقتصادي، وظهر من خلالها انفتاحه على التجارة الدولية وانخراطه في التجربة الليبرالية”.
وأضاف الأستاذ الجامعي نفسه مدخلا آخر يتصل “بإمكانية كتابة تاريخ عالمي انطلاقا من مادة من المواد”، مفيدا بأن “هناك دراسة أعدت في التاريخ العالمي انطلاقا من الشاي؛ كيف انتقل وكيف جرى استهلاكه ثقافيا من قبل الشعوب، وأخرى عن القهوة والتوابل، إلخ”. وزاد “بعض الأطباق بدورها قد تشكل مدخلا؛ بما فيها الكسكس الذي انتقل من المغرب إلى الأندلس ثم إلى إيطاليا وفرنسا، وحاليا في مطاعم بكين”.
تجاوز الكلاسيكية
ياسر بنهيمة، أستاذ محاضرة بجامعة ليون 2 بفرنسا، أكد بداية ضرورة “ما ينبغي استحضاره هو الموقف النقدي من التاريخ العالمي، حيث كانت ثمة العديد من الدراسات النقدية وحتى الثقافية التي ساهمت في إغناء النقاش بشأن هذا الحفل؛ ومن بينها الدراسات الثقافية التي تناولت الأقليات وكذا الدراسات ما بعد الاستعمارية. وهنا كانت بصمة المفكر إدوارد سعيد حاسمة، فضلا عن الدراسات الخاصة بالمجموعات المهمشة وإن كانت لديها ميولات ماركسية”.
وأبرز بنهيمة، وهو يجيب في مداخلته عن سؤال: “كيف يمكن كتابة التاريخ المترابط للمغرب؟”، أن “الإسهام الأكاديمي في هذا المجال شمل أيضا الفرنسيين، الذين لهم مساهمات قديمة جدا وإن كانت لا تتطرق بالطبع للتاريخ الكوني ولا تقر بذلك صراحة، إلا أنها تناولت بصيغة أو بأخرى هذه المواضيع ذات الصلة بالتاريخ العالمي”.
واستحضر في هذا الصدد “إسهامات فرناند بروديل، التي تعرض لمحة عن أفق الحضارات التي تشكل العالم الحديث؛ غير أنها لا تزال جزءا من التقليد القديم للتاريخ العالمي”.
وأشار الأستاذ الجامعي عينه، كذلك، إلى “المؤرخ الفرنسي جان روبين، كان في الوقت نفسه متخصصا في إيران ومؤرخا للثقافة اللوزية”، لافتا إلى إشارة مهمة تتصل “بأن جزءا مهما من أعماله حول المغرب مضمن في المجلد الثالث من كتاب “لاتين إسكولا”، موضحا أن “الاهتمام بالتاريخ العالمي شهد تطورا ملحوظا في العقد الأول من الألفية الثالثة، من خلال ظهور التاريخ المترابط الذي جعل أشكال الاتصال والربط مواضيع أساسية للدراسة”.
ولفت المتحدث نفسه إلى المنهجية التي اعتمدها المؤرخون مثل سانجاي سوبرامانيام وسيرج بيزينسكي، لدراسة “التاريخ المتصل (المترابط)” الذي يهدف إلى تسليط الضوء على التقاطعات والتفاعلات بين الحضارات بدلا من دراسة كل واحدة منها بمعزل عن الأخرى”، مبرزا أنه “لتطبيقها على تاريخ المغرب لا بد من تجاوز الرؤية الكلاسيكية التي تقتصر على الدولة المركزية والسلالات الحاكمة؛ إلى الاهتمام بمختلف الأبعاد، إذ يمكن على سبيل المثال ملاحظة كيف تم تمثيل المغرب في الخرائط القديمة”.
وقدم الأستاذ المحاضر، في هذا الصدد، “واحدة من الخرائط اللافتة في هذا السياق هي الخريطة الكورية التي أنجزت في بداية القرن الخامس عشر، والتي تمثل العالم بنظرة جغرافية مسطحة وتركز على الصين كالمركز بينما تعرض المغرب في موقعه على الأطراف الغربية”، مبرزا أن “هذه الخريطة، التي كانت جزءا من رؤية جغرافية في العصور الوسطى، تظهر كيف كان يتم تمثيل المغرب والغرب بشكل عام من منظور حضارات بعيدة”.
وأورد المتحدث نفسه مداخل أخرى لمقاربة التاريخ العالمي للمغرب، كذلك هي أسفار “الرحالة المغاربة التي جلبت معهم تأثيرات كبيرة إلى المغرب”، وكذا “حركة المعارف التي تعد جزءا مهما آخر من تاريخ المغرب العالم؛ فعلى على سبيل المثال، كانت المخطوطات الإسلامية المغربية مثل “الشفاء” و”دلائل الخيرات” من بين النصوص الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي”، لافتا إلى الملابس كذلك “حيث كان الحايك والحنبل اللذين راجا بقوة بالبلدان الإفريقية خلال القرون الحديثة”.
تجاوز للحدود
من جانبه، أشار إدريس المغراوي، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة الأخوين وعضو مؤسس للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية ومعهد الدراسات الاجتماعية في الرباط، إلى أن التاريخ العالمي هو دراسة لتاريخ الدول خارج حدودها، متطرقا بشكل مستفيض إلى خطاب الحضارة الذي تبناه الغرب، والذي تعرض للانتقاد، نظرا لأنه كان وما زال استعلائيا، واعتبر من خلاله الغربيون أنهم يلقنون الحضارة للشعوب المستعمرة، وهو ما بدا من خلال كتابات مؤرخين عديدين”.
وأشار المغراوي إلى أن من بين المؤرخين الذين كانوا يتبنون “خطاب “التحضر” القائم على التقسيم ما بين عالمين؛ أوروبي متحضر مناصر للعقلية العلمية وآخر غير متحضر” إرنست رينان، مؤكدا وهو يرصد الانتقادات التي وجهت إلى التاريخ العالمي من زاوية المؤرخين الأوروبيين أنه شابته نظرة استعلائية عن الأفارقة وشعوب الشرق الأوسط وكل ما هو غير أوروبي”.
0 تعليق