هكذا حرر الملك محمد السادس جسد السلطان من صرامة القداسة والصولجان

0 تعليق ارسل طباعة

“آمل أن تنمو حكمتنا مع سلطتنا وتعلمنا أننا كلما قّلنا من استخدام سلطتنا كلما تعاظمت”، توماس جيفرسون

في المقارنة بين الحسن الثاني والملك محمد السادس على مستوى الصورة التي ظهر بها الملكان على عموم المغاربة نجد اختلافات كثيرة وتباينات جذرية، كان الملك الراحل محميا بقداسة الفصل 19 من الدستور، لذا لم نر الملك الراحل الحسن الثاني إلا واقفا بقسماته الصارمة، وحركاته الحازمة وهو يعطي التعليمات لرجال حاشيته، أو جالسا على العرش وهو يخاطب الأمة أو ممثليها أو مرافقا لزعماء وقادة دول العالم في القمم والمؤتمرات..

فيما أطل علينا الملك محمد السادس، إضافة إلى صوره الرسمية، بصور ذات بعد إنساني تلقائي، في بداية حكمه كشاب بطاقية مراكشية أو مسبح رفقة كلابه، أو بلباس الدجين وجاكيط الجلد وحذاء رياضي… وبعدها صوره التلقائية في الشوارع العامة داخل المملكة أو خارجها، وصور السيلفي مع مواطنين عاديين، وصولا إلى صوره الأخيرة وهو يتكئ على عكاز، أو مباشرة بعد إجراء عملية على عينه أو على قلبه، وبكسر في كتفه الأيسر؛ صور أعطت بعدا حميميا لجسد السلطان الذي كان محرما عليه البروز إلا وهو سليما معافى كدليل قوة وسلطة ومهابة، ولا يعتريه ما يعتري باقي أجسام العباد من مرض أو عطب أو اعتلال، لأن جسد السلطة كان مقرونا بجسد السلطان، والسلطة لا تحتمل الاعتلال، لأنها رديف الجبروت والقوة والغلبة والسيادة بعنف، وهو ما يعني أن الملك محمدا السادس قام بعمل غير مسبوق في تاريخ الملكية بالمغرب، وهو أنسنة المُلك انطلاقا من أنسنة جسد السلطان، وهذا له أثره على تنسيب السلطة ذاتها وعلى تنسيب الحقيقة التي تتعارض ووضعية القداسة التي رفعها عنه الملك في خطابه التاريخي في 9 مارس 2011.

في كل الصور التي كان الحسن الثاني حريصا على العناية بها بنفسه أحيانا كثيرة لا تطلع على المغاربة إلا الصور الرسمية، وحتى تلك العائلية التي كانت تخرج على الناس بمناسبة زواج أو ولادة أمير أو أميرة كان يظهر فيها بحرصه على أناقته وعلى أن تحمل صوره الخاصة، رغم دفئها الإنساني، طابعها السلطوي. كان طول الحسن الثاني مترا وستة وستين سنتمترا، ولم يشعر المغاربة يوما بأنه كان قصير القامة قليلا، سوى من صافحوه من الخاصة أو من أتيح لهم لهذا السبب أو ذاك الاقتراب منه، لأنه اختار دوما أن يبدو في صورة الجالس على العرش بشكل رسمي، والجلوس على العرش يحمل بُعد الجد والهيلمان والصرامة، والاستواء معناه الاكتمال والانتشار والتمدد، وبسط السلطان على ما يحيط به، وهو أيضا دال على التعالي وقوة الصولجان والبأس… أو واقفا أثناء استقبال أو في أنشطة ملكية عديدة، والوقوف إحالة على القوة، الهبة والجبروت والتأهب واليقظة.

مرة واحدة رأينا الملك الحسن الثاني وهو نائم، غير واقف ولا جالس.. كان هناك ممددا وسط تابوت بلا حياة؛ إنه الملك المحجوب عنا في لحظات ضعفه الإنساني، في زمن المرض أو الضعف. حتى إن دساتير المملكة لم تكن تشير قصدا إلى احتمال مرض الملك. كل الدستور يشرعن القداسة. جسد سلطان قوي يحكم ويسود، يدير المؤسسات وينتشر في كل الدواليب. ولا يمكن يوما أن يعتل جسد محجوب في ضعفه الإنساني، لأن ذلك يبدو كما لو أنه مس بقوة السلطة التي لم تكن إنسانية ولا ديمقراطية، يفترض فيها الخشونة وإرهاب الخصوم وردع من تُسول له نفسه تجاوز الحدود؛ فكما الأسدين المرسومين على عرش السلطان المغربي على الجالس عليه بقوة السياق السياسي، وما توارثته الملكيات والشكل الذي اختاره الحسن الثاني لحكمه ليكون مرهوبا ومهابا، (عليه) أن يكون أسدا قادرا على الانقضاض، القوة، العنف… ولا يمكن أن يعتل أو يمرض!.

نتذكر الإخراج المسرحي الذي قام به الحاجب بّاحماد لإخفاء موت السلطان المولى عبد العزيز في أحد محلاته، كيف حافظ على استمرار الحياة في جسد ميت حتى بلوغ العاصمة. لم يكن ممكنا أن يبدو جسد السلطان كجسد طبيعي يعتريه المرض والاعتلال، فبالأحرى الموت، لأنه جسد مقدس.

لذلك نفهم كيف سمح انفتاح العهد الجديد ببروز صور غير معهودة للملك الراحل في وضعه الإنساني الحميمي، أبرزها وأقواها صورة نشرتُها سابقا، واعتبرتها منفلتة حقا (انظر الصورة أعلاه)، حيث يظهر جسد الملك الراحل الحسن الثاني في حميميته الإنسانية، في طبيعته الخالية من السحر والقوة، حيث يمكن أن يعلو شخيره، وأن يصدر منه وعنه ما يصدر عن جسد آدمي في النوم الذي هو صنو الموت.

إن الأمر يتعلق بجانب ملغز في حياة الملك الراحل، تجد فاطمة أوفقير في كتابها “حدائق الملك” جزءا من مفاتيحه حين تقول: “كان الحسن الثاني شديد التناقض، فهو مغرم بالترف والمال، والمآكل الشهية، والأشياء الفاخرة الثمينة؛ غير أنه مع إحاطته بأجمل الأثاث في قصره يأكل وهو يجلس على سجادة صغيرة للصلاة، وأمامه طاولة صغيرة بسيطة من ‘الفورميكا’، مستخدما أدوات مائدة بدائية…”.

وها هي صورة الحسن الثاني مغايرة لما عهدناه، تنفلت من أرشيف شخصي عائلي وتقفز إلى العموم، صورة جد نادرة، مبنى ومعنى، حيث يبدو الملك الراحل الحسن الثاني وسط طائرته الخاصة، ممددا على سرير عادي وهو بملابس نومه تحت ملاءة بسيطة، وبالقرب منه أكوام من حقائب ملابسه المبعثرة وأحذية وصندل منزلي عادي، ومؤنسوه ومبسطوه؛ صورة صادمة للأحاسيس، تعصف كليا بما نعرفه عن الحسن الثاني من أًبَّهة أسطورية، وهيلمان سلطاني يحيل على الإمبراطوريات الكبرى. لم يكن ذلك ممكنا إذا لم يسلك الملك محمد السادس مسلكا مغايرا لوالده في تعميم صوره الحميمية ببعدها الإنساني، وصولا إلى إعلان مرضه واعتلاله على العامة، من خلال بيانات عديدة من الديوان الملكي وعبر نشر صوره وهو بجسد به علة كما باقي أجساد العباد.

الصورة كما يعرفها قاموس “Le robert” هي تمثيل مشابه لكائن أو شيء. وعند شارل ساندرس بورس تغدو الصورة علامة أيقونية تتميز بشبهها النشوئي بالموضوع الذي تحيل عليه. وهذه الصورة المنفلتة تُبرز جانبا خفيا من الحياة الحميمية للملك؛ في بُعدها الإنساني المرتبط بالبساطة يظهر الحسن الثاني الإنسان ممددا على السرير، لا واقفا ولا جالسا، إنه نائم، وهو ما لم يكن ممكنا أن يحظى برؤيته المغاربة… جسد يشبهنا، بدون قداسة، ولا قوة بروتوكول، جسد متحرر من كساء السلطان وصولجانه وتاجه.

في حدثين متزامنين حديثين ظهر الملك محمد السادس وهو بكسر في كتفه الأيمن، الحدث الأول بمناسبة استقبال الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، والحدث الثاني أثناء الجلسة التي عقدها بالقصر الملكي في أعقاب رفع الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة، بعد انتهاء مهامها داخل الأجل المحدد لها، تقريرها النهائي إلى الملك. النشاط تمت تغطيته عبر الصورة ومن خلال كاميرا التلفزيون، حيث اعتاد المغاربة ظهور الملك محمد السادس في طابعه الإنساني المحض. ولعل هذا سر التعاطف والتضامن الذي يستقطبه محمد السادس الذي حرر جسد الملك من قداسة السلطان.

لقد سبق أن ظهر الملك محمد السادس أثناء استقبال الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون وهو يستند على عكاز طبي. نقلت الصحف والتلفزيونات الرسمية للمملكة الصورة بشكل عادي، وعلقت مصادر طبية متتبعة لصحة الملك على أسباب ظهوره مستندا على عكاز طبي، خلال استقبال ماكرون الذي كان يقوم بزيارة دولة إلى المغرب، بأن “الملك محمدا السادس عانى مؤخرا من أعراض انكماش عضلي على مستوى الظهر من جهة اليمين بسبب ضغط العصب الوركي (Contracture musculaire au dos due à une sciatique)”، مشيرة إلى أن هذه الأعراض الطبية بدت خلال الأنشطة الملكية الأخيرة، خصوصا خلال استقبال الحكومة في نسختها الجديدة بعد التعديل الحكومي الأخير، وكذا في مراسيم تعيين الولاة والعمال الجدد.

أعادتني صورة الملك وهو يستند على عكاز طبي إلى أول صورة ظهر فيها هكذا في نشاط رسمي، صورة – قياسا للزمن الذي ظهرت فيه، في نونبر 2012- تعتبر علامة فارقة في مسار الملكية، لقد كتبتْ يومها كبريات الجرائد العالمية ما مضمونه: “خلّف ظهور العاهل المغربي الملك محمّد السادس وهو مستند على عكّاز طبّي، أثناء افتتاحه نشاطا رسميا بمدينة الناظور/ شمال البلاد الكثير من التعاليق على المواقع الاجتماعية والرقمية. وبدا العاهل المغربي على شاشة التلفزيون الرسمي وهو متكئ على عكاز بيده اليمنى، أثناء تدشينه قاعة متعدّدة الرياضات بمدينة العروي، قرب النّاظور. وهذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها الملك وهو يتكئ على عكاز طبي، وغالبا ما يتم التكتم على حالته الصحية”.

وقد علقتُ على الحدث يومها في تصريح لقناة “بيبيسي” قائلا: “إنها سابقة في تاريخ الملوك والسلاطين المغاربة، تلك الصورة التي ظهر بها الملك محمد السادس وهو يتكئ على عكاز طبي أثناء زيارته مدينة الناظور لتدشين مجموعة من المشاريع. إنها المرة الأولى التي يخرج فيها ملك مغربي على ‘رعاياه’ وهو بعلة/ وعكة صحية.. ذلك أن جسد السلطان ظل يعلو على الإنساني والاعتيادي فينا، فهو جسد فوق طبيعي تقترب صورته من الله وظله، وتبتعد عن الطبيعة البشرية التي تصيبها العلل والأمراض وتعترضها باقي خطوب الدهر وصروفه”.

بعدها سيظهر محمد السادس من جديد بجماعة بني يخلف المحمدية وهو يتكئ على عكاز طبي ليرسخ صورة نبيلة لجسد إنساني بعيدا عن القداسة التي ظلت تكبل جسد السلطان والسلطة بالمغرب لقرون عديدة. هذه الصور ليست عادية بأي حال، إنها انفلات من الأسر وتحول جديد، إذ ظل جسد السلطان لا يخضع لصيرورة الزمن، لأنه جسد ميتافيزيقي، خارق وصلب، واحد غير متعدد، يعلو على الزمان ونائباته حتى ليبدو أن جسد السلطان لا طبيعي ولا تاريخي، قوي لا يمرض ولا يعطب، صلب لا يقهر، فهو صحيح أبدا لا يصيبه إبدال أو إعلال، وحتى موته يجب أن يكون مصدر حساب دقيق في موازين السلطة؛ لأنه جسد محمي من أعلى لا من أسفل.

ولأن الحجاب ضروري بين الإنسان الملك والسلطان الحاكم، بين جسد الملك العمومي والملك الخصوصي، فقد كان الحسن الثاني يتخفّى في أزياء العامة ويتنكر في أشكال مختلفة ويخالط عامة الناس، ليس فقط لمعرفة حقيقة ما يعيشه عامة الشعب، ولكن أساسا ليستعيد إنسانيته ويحرر بشريته من عبودية السلطان السابق على وجود الملك؛ على خلاف نجله الذي يظهر في سيارة مكشوفة وسط أكثر الأحياء الشعبية خطورة، أو يحتك جسديا بالجمهور المتزاحم من الناس العاديين في كل استقبال كما رسخه منذ بداياته الأولى في ممارسة الحكم.

في كل الدساتير التي عرفتها المملكة لم يكن هناك بندٌ واحد ينص على ما يجب القيام به في حالة اعترض الملك عائق صحي وأصبح عاجزاً عن القيام بوظائفه الحيوية في السلطة السياسية. لم ينص أي دستور على الاحترازات اللازمة من فراغ رأس السلطة في حالة اعتراض جسد الملك ما يعترض باقي البشر من أمراض وعلل تعيقه عن ممارسات واجباته في الحكم؛ لذلك يعتبر ظهور محمد السادس، وهو متكئ على عكاز طبي أو بكسر في كتفه، أمام عموم الناس في لقاء رسمي، شجاعة استثنائية، لأنه بمثابة مصالحة نبيلة بين جسد السلطان وجسد الملك، شبه أنسنة ذاتية للسلطة المتوحشة داخل جسد السلطان الميتا بشري أو الذي يعلو على الإنسان، كما لو أن محمدا السادس يعمم على عامة الناس جسده الخصوصي المحض إنساني الذي يشاركهم في آدميتهم، يعتريه ما يعتريهم، يصيبه ما يصيبهم، وهو بذلك يقوم بعمل غير مسبوق في تاريخ السلاطين عامة، الذين اعتبروا مرضهم وأعطابهم الإنسانية كما لو أنها انتقاص ضمني من قدرتهم على ممارسة السلطة وتوفير الحماية للآخرين.

لقد أحدث محمد السادس بظهوره وهو باعتلاله الفيزيقي ثقبا كبيرا في جدار سميك، اسمه الحجاب الضروري بين الملك الخصوصي والملك العمومي –كما يتحدث عن ذلك الأستاذ محمد الناجي- لم تعد العيوب البشرية تنقيصا من هبة الحاكم، والدليل ما أبداه عموم المواطنين من تعاطف قوي وما تداوله الفايسبوكيون في تعليقاتهم على الصورة الملكية التي يستند فيها الملك على عكاز طبي. أكثر من ذلك استعاد محمد السادس الصورة الأولى البهيجة التي رسمها له المغاربة في الأذهان.

لم يعد جسد السلطة استثنائيا، مقدساً، متعاليا وغير إنساني… إنه هنا في كامل طبيعته البشرية، إنه ملك إنسان يتصالح مع هشاشته التي لا يخفيها عن العيان. للأمر إسقاطات كبيرة على الممارسة السياسية للسلطة، بعد أن نجح محمد السادس في فك الملك من قيود جسد “السلطان”.

فجسد السلطان ظل خارج التعميم. الصورة النموذجية لجسد الملك هي عدم الاعتلال. الضعف والمرض لا يعرفان سبيلهما إلى جسد السلطة، التي يجب أن تبقى واقفة، مشرقة، قوية، وغير معتلة أبدا؛ لأن جسد السلطان مقدس، من هنا يستمد مطلق قوته وهيمنته على كل الحقول. فيما يعطي محمد السادس عبر صورة العكاز الطبي أو وهو يعمم مرضه على المغاربة بشكل شفاف انطباعاً للملك الإنسان، القابل جسده للعطب الإنساني، والقابلة سلطته للنقصان والخطأ، لأن الملك هنا محض كائن بشري.

فليعش الملك الإنسان الذي يستعيد ذاته المحض إنسانية. ذلك أفقنا الطبيعي لتنسيب الحقيقة، لتقسيم السلط الذي لا يعتبر ضعفا، لرسم المسار الديمقراطي للبلد دون اعتلال.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق