شهد الاقتصاد الصيني خلال العقود الأخيرة طفرة نمو غير مسبوقة، جعلت الصين واحدة من أكبر القوى الاقتصادية في العالم.
جزء كبير من هذا النجاح يعزى إلى السياسات النقدية والمالية التي اعتمدتها الحكومة الصينية، وخاصة إدارتها لعملتها الوطنية، اليوان، حيث إن التلاعب الذكي بسعر صرف اليوان مقابل الدولار الأمريكي كان أحد أبرز الأدوات التي استخدمتها الصين لتحقيق هذه الطفرات الهائلة. ولكن كيف تمكنت الصين من استخدام اليوان كأداة لتعزيز اقتصادها في مواجهة هيمنة الدولار؟
التلاعب بسعر صرف اليوان
بحسب صحيفة “ساوث اتشينا مورنينج بوست” في تقرير لها نشر الأحد 19 يناير 2025، فأن الصين اعتمدت منذ عقود سياسة نقدية صارمة تتعلق بسعر صرف اليوان. ففي الوقت الذي تتمتع فيه العملات الرئيسية، مثل الدولار الأمريكي واليورو، بنظام سعر صرف مرن، تتبع الصين سياسة الربط الجزئي أو الإدارة المحكمة لليوان. ويعني ذلك أن الحكومة الصينية تتحكم في سعر صرف العملة بدلاً من تركه خاضعاً لقوى السوق.
السياسة الصينية تعتمد على تثبيت قيمة اليوان عند مستويات منخفضة نسبياً مقابل الدولار الأمريكي. هذا التخفيض المتعمد للعملة يجعل الصادرات الصينية أرخص وأكثر تنافسية في الأسواق العالمية.
المنتجات الصينية تصبح خياراً جذاباً بالنسبة للمستهلكين والشركات حول العالم بسبب سعرها المنخفض، مما يعزز الطلب على السلع الصينية ويدعم الاقتصاد المحلي.
التدخل الحكومي المستمر
التلاعب بسعر صرف اليوان ليس مجرد إجراء اقتصادي، بل هو استراتيجية مدروسة تعتمد على تدخلات مكثفة من البنك المركزي الصيني. البنك يشتري كميات كبيرة من الدولار الأمريكي باستخدام اليوان، مما يدعم سعر الدولار ويضغط على قيمة اليوان. هذه التدخلات تخلق بيئة تنافسية للصادرات الصينية على حساب الاقتصادات الأخرى، خاصةً الدول التي تعتمد على الصناعات التحويلية.
بالإضافة إلى ذلك تحتفظ الصين باحتياطات ضخمة من العملات الأجنبية، وخاصة الدولار الأمريكي، تقدر هذه الاحتياطيات بما يزيد على 3 تريليونات دولار، مما يمنح الحكومة الصينية قوة هائلة للتدخل في أسواق العملات عند الحاجة.
تأثير الاستراتيجية على النمو
التلاعب بقيمة اليوان أدى إلى طفرة هائلة في صادرات الصين. فالصين، التي كانت تعتمد سابقاً على الزراعة، أصبحت “مصنع العالم” بفضل منتجاتها الرخيصة والمتنوعة. الصناعات التحويلية، مثل الإلكترونيات والمنسوجات والآلات، شهدت ازدهاراً غير مسبوق، مما جعل الاقتصاد الصيني الأسرع نمواً في العالم.
هذا النمو المدفوع بالصادرات مكن الصين من تحقيق معدلات نمو وصلت إلى 10% سنوياً في بعض الفترات. وبالإضافة إلى ذلك، وفرت الحكومة الصينية فرص عمل لملايين العمال، ونجحت في خفض مستويات الفقر بشكل كبير، حيث انتشلت مئات الملايين من المواطنين من براثن الفقر خلال فترة زمنية قياسية.
التوتر مع الولايات المتحدة
التلاعب الصيني بسعر صرف اليوان لم يمر دون انتقادات، فقد اتهمت الولايات المتحدة، إلى جانب دول أخرى، الصين باستخدام سياسات غير عادلة لتحقيق التفوق الاقتصادي.
الحكومات الأمريكية المتعاقبة انتقدت الصين بشدة، ووصفتها بـ”المتلاعب بالعملة”، معتبرة أن سياسات بكين تلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الأمريكي من خلال توسيع العجز التجاري.
في مواجهة هذه الانتقادات، دافعت الصين عن سياستها، مؤكدة أنها تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي في الداخل، وليست محاولة للإضرار بالدول الأخرى، كما أكدت الحكومة الصينية أن ربط اليوان بالدولار يساعد على تجنب تقلبات حادة في أسواق الصرف العالمية.
التوجه نحو تحرير العملة
رغم نجاح سياسة التلاعب باليوان، إلا أن الصين بدأت تدريجياً في تغيير نهجها خلال السنوات الأخيرة، الضغوط الدولية، بالإضافة إلى الحاجة لتطوير اقتصاد يعتمد على الاستهلاك المحلي بدلاً من الصادرات فقط، دفعت الحكومة الصينية للسماح بهامش أكبر لتحرير العملة.
منذ عام 2015، بدأت الصين في اعتماد نظام أكثر مرونة لسعر صرف اليوان، حيث أصبح البنك المركزي يسمح بتقلبات يومية ضمن نطاق محدود. ومع ذلك، ما زالت التدخلات مستمرة للحفاظ على استقرار العملة ودعم تنافسية الاقتصاد.
استراتيجية ذكية
تلاعب الصين بسعر صرف اليوان مقابل الدولار كان استراتيجية ذكية مكنت الاقتصاد الصيني من تحقيق طفرات نمو هائلة وتحويل البلاد إلى قوة اقتصادية عالمية. بفضل هذه السياسة، عززت الصين مكانتها كأكبر مصدر للسلع في العالم، ونجحت في تحسين مستوى المعيشة لملايين المواطنين.
رغم الانتقادات الدولية والاتهامات بالتلاعب بالعملة، أثبتت التجربة الصينية أن استخدام الأدوات النقدية بشكل مبتكر يمكن أن يكون عاملاً حاسماً في تحقيق النمو الاقتصادي.
إخلاء مسؤولية إن موقع جريدة الجوف يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
0 تعليق