حقق الجزء الأول من فيلم المصارع Gladiator الذي أنتج سنة 2000 وأخرجه السينمائي العالمي ريدلي سكوت Ridley Scot نجاحًا هائلًا، حيث أصبح جزءًا من الرصيد السينمائي العالمي الشعبي. استطاع فيلم Gladiator “المصارع” الحصول على خمسة جوائز أوسكار، وهي أثمن وأرقى الجوائز العالمية في ميدان السينما، تمنحها الأكاديمية الأمريكية منذ سنة 1929، وتُمنحُ للجدارة الفنية والتقنية في مجال صناعة السينما.
وهاهو المخرج الإنجليزي ريدلي سكوت Ridley Scot يعود في سن 87 عاما ليخرج الجزء الثاني من الفيلم، بعد أكثر من 20 عامًا على إخراج الجزء الأول، مثيرا ردود فعل نقاد عالميين قوية ومتضاربة ومتناقضة، رغم قدرات الرجل التي لا يختلف عليها إثنان.
تندرج محاولات إنتاج أجزاء جديدة من أفلام ناجحة ضمن خانتين لا ثالث لهما:
إغراء تحقيق إيرادات مالية إضافية تستثمر إمكانات شبط التذاكر وما ترسخ فيه من أثر خلفه الجزء الأول،
إغراء الشهرة وترسيخ نجوميات ارتبطت بحكي وبشخصيات تخييلية فذة، على أساس تاريخي وروائي، مُستمَد من مونوغرافيا ومن روايات ذائعة الصيت،
في كلتا الحالتين تكون هناك إحالالت على ثقافة وقيم وأمم بعينها تخدمها السينما ككل الصناعات الفنية والثقافية والألعاب وتصاميمها، ارتباطا بسياقاتها الحاضرة وبالعالم الذي تنتمي إليه.
القصة والشخصيات
يشخص الممثل “بول ميسكال”، بدور “هانو”، المحارب النوميدي الشجاع الذي يقاتل الجيش الروماني على سواحل شمال إفريقيا. يتعرض “هانو” للهزيمة على يد الجنرال الروماني أكاسيوس (يؤدي الدور الممثل “بيدرو باسكال”)، الذي رغم قسوته، يظهر بعض الندم. والجديد في الجزء الثاني من فيلم ريدلي سكوت ضمن عناصر أخرى، هو مشاركة الممثل العالمي المعروف “دينزل واشنطن” في دور شرير قاسٍ، وكذلك مشاركة الممثلة “كوني نيلسن” التي تميزت في الجزء الأول، في دور أم حزينة تسترجع إبنا متمردا، بعدما حمَلت به من محبوبها الجنرال ماكسيموس بطل الجزء الأول من الفيلم. يستغرق الفيلم ساعتان ونصف، ومقارنة بجزئه الأول، فهو ممنوع لمن هم دون 12 عامًا نظرا لمشاهد العنف التي يتضمنها.
انتقادات بالجملة
تعرَّض الفيلم الذي يوظف تقنيات جد متقدمة لاسترجاع عوالم تخييلية تسترجع تاريخا دالّاً اليوم على مستوى القيم وإشكالياتها الإنسانية الوجودية، تعرَّض لانتقادات كثيرة من سينمائيين ومن نقاد أهمها معروف وسبق طرحه مع سينمائيين كبارا، كما تُطرح عادة مع أفلام شباك التذاكر ونوع الرسائل النمطية التي تحملها وتروجها.
يثير الجزء الثاني من فيلم “المصارع II – Gladiator II” في نظرنا جملة من الملاحظات تتراوح بين الإيجابي والسلبي نجملها فيما يلي:
يُبرهن غياب الجديد وضعف التطوير السليم لحبكة الجزء الأول سرديا ودراميا مقارنة بالجزء الأول من فيلم “المصارع”، عن عجز المخرج المُسنِّ عن العودة للإخراج بكل قدراته الإبداعية، وكأنه متسابق عالمي فقد لياقته، وعاد إلى السباق في حلبة شباب سببت هزيمته بشكل مذل وغير لائق. يذكرنا هذا النقد بما تعرض له المخرج العالمي “مارتن سكورسيزي” مع فيلم “The Irishman – الإيرلاندي”، وكذلك المخرج الفرنسي السويسري “جان لوك غودار” مع فيلم “The Image Book – كتاب الصور”، وهو موضوع سنعود إليه في مقالة أخرى.
في نفس السياق يبدو فيلم “Gladiator II – المصارع II” نمطيٌّ، لأنه يعيد إنتاج تصورات التفوق الذكوري مقابل الضعف الأنثوي، وغباء الشر وسوء النية المرافقة له مقابل حسن نية الخير وحس الذكاء الذي يقترن به. إنها بمعنى ما القيم المُعَلَّبة والمحنَّطة التي يروجها الغرب في تناقض مع ما يدعيه من قيم التعدد الثقافي والعدالة والمساواة إلخ.
يبدو المخرج “ريدلي سكوت” من خلال هذا الجزء الثاني وكأنه يفتقد اليوم إلى الشغف والاهتمام الدقيق كما كان الأمر مع أفلامه السابقة وخاصة: The cancellor – Blade Runner الجزءان معا على سبيل المثال لا الحصر، الاهتمام بالحكايات وبتفاصيل الشخصيات، وهو ما يبدو أنه حاول الاستعاضة عنه باللجوء إلى التقنيات العالية والمؤثرات التكنولوجية المتضخمة، التي تصبح مُمِلة وفارغة في غياب مضمون قوي بتجذره في التلقائية والتاريخ والمشاعر الأصيلة التي تحملها المشاهد بصريا وحوارات.
في سياق نمطية طرح القيم في السينما الغربية عموما يظل فيلم “المصارع II” وفيا لها بحصره الصراع الأساسي في الفيلم، ضمن المواجهة بين النبل والخير والقوة لدى الأبيض، مقابل العبد ذي الأصول غير الأوروبية الذي ينتهي بانتصار النبيل الأبيض.
عكس الجزء الأول، تفتقر مشاهد المعارك لشحنات الوجدان وشحنات حمل قضية عادلة. كان المضمون القوي انفعاليا وعاطفيا واضح في الجزءالأول مع شخصيات الفيلم:
شخصيات الأمبراطور “ماركوس أوريليوس” والجنرال “ماكسيموس” والأميرة “لوسيلا” وابن الإمبراطور “كومودوس” والجنود الأوفياء، جعل غياب هذه الشحنات الانفعالية الشخصيات تبدو باردة بإغراق في تقنياتٍ لا تعوض ضُعف الإخراج وبلاستيكية تنفيذ المشاهد القتالية.
اعتبارات ينبغي تقديرها
فيما قدم الجزء الأول من فيلم “المصارع II – Gladiator II” ملحمة درامية رفيعة، تنضح بالعواطف وبالصراعات الإنسانية ذات البعد السياسي الواضح، يبدو أن الجزء الثاني من الفيلم الضخم الإنتاج، حاول، بالقليل من التوفيق، استكشاف زوايا جديدة لعالم المصارعين في فضاءات الأمبراطورية الرومانية، وهو ما يحمل دلالات على السلكة السياسية والصراعات حول حيازتها التي ترتبط بطبيعة الإنسان عامة. كانت نبل ونقاء شخصية الجنرال “ماكسيموس”، التي جسدها الممثل “راسل كرو” في الجزء الأول من الفيلم، يأخذنا إلى عوالم تسمح بتماه عميق، أما الجزء الثاني من الفيلم فيسافر بنا في رحلةٍ مع بطل جديد أقل قدرة على اختراق الوجدان والإدراك العاطفي للمشاهد، على الرغم مما يواجهه من تحديات لا تقل صعوبة عن سابقه، لكن سياقات خوض المعارك وطريقة صياغتها سينمائيا، وعلى الرغم من كل المؤثرات والتقنيات التي تم توظيفها، تظل عاجزة عن حمل ما يكفي من قوة التأثير الوجداني، لاقناع المتفرجين بصدق الحكاية وبتلقائية الشخصيات، في حمل حكاية الفيلم، والذهاب بحبكته إلى أعماقهم العاطفية. ورغم عدم الكشف عن كل التفاصيل.
تحديات الإنتاج والرهانات السينمائية
واجه الفيلم بالتأكيد أكبر التحديات، والواضح أن أهمها من باب الدلالات والاختيارات الجمالية تحدي التوفيق بين الواقعية التاريخية كما عرفتها الصرارعات السياسية في الفترة الرومانية، وبين متطلبات السينما الحديثة والذوق السائد اليوم حيث الإثارة والعنف والميول الجنسية وسرعة إيقاع السرد وتتالي الأحداث والجماليات التقنية تحتل مكانة كبيرة في شباك التذاكر ونيل النجاح فيه. فالتوفيق بين الدقة في تصوير تفاصيل مظاهر الحقبة الرومانية من جهة، وتقديم عمل بصري جذاب يناسب التقنيات المتقدمة في صناعة السينما اليوم من جدهة أخ رى ليس بالسهل على الإطلاق، في ظل تدبير فريق ضخم وميزانية كبيرة وتقنيات مغرية ومنتجين لا تبارح أعينهم أولويات إيديولوجية غربية وأسبقيات ثقافية معولَمة، وإن ادعوا العكس.
هناك أيضا تحدٍّ آخر يكمن في كيفية بناء حبكة مقنعة للجزءالثاني تضاهي الأولى دون تكرارها ولا الابتعاد عنها، استثمارا للمخزون الجيد الذي تركه الجزء الأول، دون الاعتماد على شخصية ماكسيموس التي أصبحت أيقونية في الذاكرة السينمائية. لقد كان على المخرج وفريقه التقني والفني إبداع شخصية جديدة تتمتع بنفس القوة والعمق الذي تمتعت به شخصية الجنرال “مكسيموس”، وتحقيق، علاوة على ذلك، سرد يوازي في جاذبيته ما قدمته الكتابة السينمائية في الجزء الأول من فيلم “المصارع II – Gladiator II”.
هل يحقق الجزء الثاني من فيلم “ريدلي سكوت” النجاح نفسه الذي حققه الجزء الأول؟
أعتقد أن السؤال يحمل في طياته همَّ تحقيق الإيرادات وليس همَّ الإبداع كأولوية، فالخروج من جلباب الأب يظل دائما محفوفا بخطر الفشل، وتحقيق الاستقلالية عن نموذجٍ تليدٍ يتطلب وقتا. قضية الشيخوخة/النضج التي تطرح اليوم مع مخرجين مثل “ريدلي سكوت” و”فرانسيس فورد كوبولا” و”مارتن سكورسيزي” وأخرون سنعود إليها في مقالة قريبا.
0 تعليق